المحكمة العجيبة

مقدّمة

من مذكّرات وزير الثقافة: انطباعات خاصّة!

في محكمة التاريخ، الفرد متّهم بتهم شتّى: تاريخية وآنيّة.. سياسية واجتماعية، وعسكرية واقتصادية..! وهو ضحيّة، وهو شاهد! وكلّ قاض، في كلّ محكمة، ينظر إليه، من زاوية: هو مجرم، أو ضحيّة، أو شاهد!

هذه الحكاية، حكاية المحكمة، ليست من نسج الخيال؛ إنها حكاية حقيقية حيّة..!

أشخاصها أحياء: بعضهم حيّ بشخصه.. وبعضهم حيّ بنَسله.. وبعضهم حيّ بتأثيره: الاجتماعي، أو الفكري، أو...!

قد يَدرسها، ذات يوم، فقهاء القانون، ويجدون فيها أشياء، لم يكونوا قد عرفوها، أو سمعوا بها.. وقد يطّلع عليها بعض المؤرخين، فيَنسب بعضاً، ممّا جرى فيها، إلى بعض الظروف، أو إلى بعض الأشخاص، أو إلى الجيل الذي حصلت في عهده؛ إلى الجيل، كلّه.. أو إلى سلسلة مترابطة متعاقبة، من الأجيال!

ليس فيها شيء غريب، عمّا هو مألوف، من طباع البشر، وسلوكاتهم، وطرائق تفكيرهم! لكنّ بعضَهم سمّاها: المحكمة العجيبة! وقد جرى تداول الاسم، طويلاً، وبين شرائح مختلفة، من الناس! لكنّ الغريب: ألاّ يعرف أحد، أين تكمن الغرابة: أهي في سلوك بعض المتّهمين.. أم في تصرّفات بعض رجال المحكمة.. أم في تفاعلات الحضور.. أم في طريقة دفاع بعض المتّهمين، عن أنفسهم.. أم في المبالغة، في الحديث عنها.. أم في بعض أسرارها، التي لم تُكشَف.. أم في بعض تداعياتها، وتداعيات آثارها المتوقّعة، والتي قد لا تَظهر، إلاّ بعد زمن طويل.. أم في الظلال، التي تركتْها في الأذهان. أم في الأصداء، التي خلّفتها في العقول، قبل الآذان.. أم في بساطةٍ، في بعض فصولها، عقّدها بعضُ الناس.. أم في تعقيدٍ، في بعض أحداثها، بسّطه بعضُ الناس.. أم في الأحداث، التي واكبت سير المحاكمة، وأعقبتها، وأثارت زوابع حولها..!؟ لا أحد يستطيع الجزم بشيء! أمّا التخمينات، فهي كثيرة.. وأمّا رؤى الناس، فهي متنوّعة متباينة.. وكلُّ رؤية لها، رآها أحد من الناس، دخلتْ في دائرتها.. وكلّ وصفٍ لها، وُصِفت به، دخلَ في صميمها.. وكلّ تعريف، عُرّفت به، أضيف إليها، فصار جزءاً منها! إنها تجربة ثقافية، حقيقية وهامّة، للأمّة! لكن، هل يمكن تكرارها؟ في ذلك شكّ كبير! و يظلّ السؤال قائماً: أين يكمن سببُ العجَب، أو سِرُّ العجَب!؟