علم النفس العصبي

مقدمة:

لله درَّك أيها الإنسان، يا أعظم، وأفضل، وأكرم مخلوق، يا خليفة الله في أرضه، ما سِرّْ عظمتك ولماذا فضلك الله على سائر المخلوقات ؟ ولماذا سَخرّ الكون بأكمله لخدمتك... الخ ؟ سلسلة  من الأسئلة الاستفهامية  والتعجبية ذات الصلة بمنجم من الثروات الجسمية، والنفسية والاجتماعية  الفائقة  لدى الإنسان، والإجابة عنها تكمن في وجود كنزين لا مثيل لهما عند باقي الكائنات الحية وغير الحية، وهما :ـ الإنسان ككائن حي.ـ هو جسد ونفس معاً، فالجسد هو وعاء النفس  أما النفس هي وعاء الروح، فالروح هو المدد، الِصلةّ، القُربّى، أي أنّ الروح همزة أو حلقة وصل بين الذات الإلهية من جهة، والإنسان جسده ونفسه معاً من جهة ثانية . الجسد بوجود النفس حي وبدونها فهو ميت، فعندما يقولون مات فلان، فهذا يعني أنّ نفسه فارقت جسده وليس الروح كما هو شائع.

 يُعدّ الإنسان كشخصية ذات فريدة لا مثيل لها، وهذه الشخصية كمركب كليّ عبارة عن نظامٍ  مفتوح يتألف من ثلاثة مكونات معاً، هي:  المكون البيولوجي (الوراثي ــــــ الفيسيولوجي)، والمكون السيكولوجي (المعرفي- الانفعالي - الدوافعي السلوكي)  والمكون البيئي ( المادي - الاجتماعي الثقافي).

ما يُميز هذه المكونات الثلاثة، وجود تمايز بينها، أي أنّ  كل مكون مستقل عن المكون الآخر في تركيبه وخصائصه ووظائفه، لكن مع وجود تكامل فيما بينها في نفس الوقت، أي لا يمكن لأي مكون من المكونات الثلاثة أن يعمل لوحده وبمعِزل عن المكون الآخر، بل جميعها تعمل معاً ضمن نظام مفتوح كوحدةٍ واحدة كلية متكاملة.  

      عندما يُولد الإنسان، يكون عبارة عن كائن حي أو بيولوجي، وهذا بحد ذاته يُضفي عليه صفة الحيوية أو الحياة، لكنه بعد الولادة، يبدأ بالنمو الفيسيولوجي، والتطور السيكولوجي ـــ الاجتماعي معاً باعتباره نظام  مفتوح، وذلك من خلال التواصل البيني، والتفاعل المتبادل مع البيئة المادية الاجتماعية الثقافية المحيطة به.  وكلما كان هذا التفاعل مستمراً وإيجابياً، كلما أدىّ إلى تشكيل شخصية إيجابية والعكس صحيح. 

 وهذا الكلام المذكور سابقاً، أشار إليه العالم الروسي فيقوتسكي (1896 - 1934)، وهو معلم العالم الروسي لوريا  (1902 - 1977) مؤسس علم النفس العصبي في روسيا، وذلك في نظريته الموسومة بـــ " النظرية الثقافية - التاريخية لتطور الوظائف النفسية العليا"، ومفاده تلعب البيئة بالنسبة لكل  واحدٍ فينا، ذلك الدور الذي لعبه مختبر بافلوف بالنسبة إلى الكلاب، حيث حددت ظروف المختبر "ردة فعل الكلاب "، وهنا تحدد ظروف البيئة الاجتماعية ــــــــ الثقافية سلوكنا بشكل عام.  

       توجد علامة فارقة تميز الإنسان كشخصية عن سائر الكائنات الحية الأخرى تكمن في تركيب ووظائف مستودع الخير والشر، وهو العضو الذي يتفوق به على جميع المخلوقات، وبالأخص المنطقة ما قبل الجبهية  أو ما قبل الأمامية في الفصم الأمامي من قشرة المخ. 

       ويتبين مما ذكرناه آنفاً مفهومين، الأول يشير إلى الدماغ، والثاني يشير إلى الوظائف النفسية العليا وهذين المفهومين لهما صلة مباشرة بعلم النفس العصبي.  وتعود بدايات ظهور ملامح علم النفس العصبي في الغرب وروسيا إلى العشرينيات والأربعينات من القرن العشرين، وذلك بفضل ما تحقق من نجاحات وانجازات علمية في علم النفس، وعلم النفس الفيسيولوجي، وطب الدماغ والأعصاب والجراحة العصبية في بداية القرن العشرين.  ويُعدّ هذا  العلم زمنياً علماً شاباً، ومن المتوقع أنه من العلوم الواعدة حاضراً ومستقبلاً، ويشهد حالياً تطوراً متسارعاً، ويتبوأ الصدارة في مراكز البحوث المرموقة عالمياً في الغرب والشرق معاً  .

يُولي الكتاب الحالي اهتماماً بالغًا للجانب النظري والعملي ـــــ التطبيقي، ويُركز في الفصل الأول على الخلفية النظرية لعلم النفس العصبي، وفي الفصل الثاني التعّرف إلى الأساس الدماغي لجميع الوظائف النفسية العليا، والمجمعات النفسعصبية اللوريانية الثلاثة، والعوامل النفسعصبية اللوريانية التسعة . 

    ومن المؤمل أنّ هذا الكتاب يتطلب من المتعلمين طلبة وأخصائيين اعتماد التعلم ذو المعنى أو التعلم بالتبصر، وذلك لكي يتسنى لهم هضم محتويات المادة بالشكل الصحيح، للعمل على توظيفها في الممارسة العملية بثقةٍ واقتدار .

أضع هذا الكتاب على طاولة التحكيم، هو في المحصلة جهد إنساني، جاء نتاج قراءات متعمقة للأدبيات الكلاسيكية والمعاصرة الروسية في علم النفس العصبي (المدرسة اللوريانية ــــ وما بعد اللوريانية)، مؤملاً أنه سيعود بالنفع على المتعلم في مشارق الأرض العربية ومغاربها، ومتوسماً في المتعلمين تقديم التغذية الراجعة الإيجابية لغايات تحسينه وتجويده لاحقاً.