تراجيديا العراق الحديث

المقدمة

ينطوي مفهوم التراجيديا Tragedy في علم الاجتماع على المأساة الواقعية الناتجة عن ظروف تسلطية ودموية قامعة صادرة من قبل سلطة عليا أو دولة عظمى تسبب محن يمكن وصفها بـ (البلية) وليس بـ (المأساة) والتشريد واللجوء والقتل والتدمير والنهب بل تشمل تجفيف منابع الحياة المؤسسية الرسمية من اطرها وكوادرها الكفؤة والاغراق في فوضى عارمة لا خلاقة، والحقن المسموم وتمزيق النسيج الاجتماعي والافساد بكل انواعه وبتر الأوردة الأمنية والعسكرية من قبل ثلاثة قوى طامعة (القوة الأمريكية والإيرانية وحكومة عراقية ممثلة لهاتين القوتين) تفاعلت في جرمها الغادر والطامع منذ عام 2003 ولغاية الآن، خسر العراق سيادته وثروته ومكانته والملايين من ابناءه.

لكن لهذه التراجيديا خلفيات قاهره وهي، حكم العراقيين من قبل دكتاتور طاغي حكم لمدة ثلاثة عقود من الزمن سلب منهم هويتهم الوطنية وحريتهم وفكرهم وأدخلهم في ثلاثة حروب طويلة الأمد لم يجنوا منها سوى الموت والإعاقة الجسدية والاستنزاف المالي والجمود التطوري مضافاً الى العقوبة الدولية عليهم التي فرضتها الأمم المتحدة في حصارها الاقتصادي الذي طال خمسة عشر عاماً، مما زاد عندهم (أي عند العراقيين) الأمراض والوفاة والفقر والبطالة والجهل والعزلة.

إذن الحكم الشمولي والاحتلالي والطائفي الذي أُخضع المجتمع العراقي له لم يتركه متعافي بل يعاني من امراض حادة ذات بلاء مؤلم وكوارث بشرية وفتن طائفية وفساد أخلاقي ومؤسسي جميعها جعلت من مجتمعهم جسداً مشلول الحركة يحتاج الى عمليات استئصالية للأجزاء التي أصابها السرطان الأجنبي ومن ثم اخضاعه للإنعاش الاجتماعي والاقتصادي لكي يسترجع عافيته ويحي حياة طبيعية وسوية أسوة بالمجتمعات الإنسانية الحيوية ويرجع الى رفد التراث العربي والإنساني بإبداعاته الخلاقة كما كان في الأزمنة الساحقة.

وقد سجلنا احداث النكبة على شكل مرايا تمثل انعكاسات لصور سلوكية قام بها بقايا الاحتلال الأمريكي في العراق (افراد الاقطاع الحكومي المتشيع في المجتمع العراقي) استطعت تصنيفهم الى النماذج التالية:

1-     صور سلوكية "مقلدة" من قبل اتباعهم تصب في ابتزاز، مقايضة مصالح، هدر المال العام، سرقة المال الحكومي، انشاء مشاريع وهمية، فضائيين في المؤسسات العسكرية والأمنية والعمالية.

2-     صور سلوكية " معارضة " من قبل مناوئيهم ومخالفيهم ومتشاحنة مع مصالحهم مثل (كشف فسادهم وانحرافهم).

3 – صور سلوكية " رافضة " من قبل جيل شبابي متطلع لعالم حر ومجتمع خالي من الطائفية والحزبية والقومية والدينية والقبلية والإقليمية. (انه جيل التواصل الاجتماعي والتغريدات).

4 – صور سلوكية " مقوضه " لمقومات قيمية وطنية واخلاقية اقترفها جميع بقايا الاحتلال او افراد الاقطاع الحكومي المتشيع والمقلدين لهم مثل اللامعيارية والاستلاب.

5 – صور سلوكية " جاهلة " مذهبياً وسياسياً وإدارياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً.

6 – صور سلوكية عدوانية عنيفة إرهابية معادية لكل افراد المجتمع العراقي.

جميع هذه الصور تعكس الخصائص الاجتماعية والشخصية لبقايا الاحتلال أو أفراد الاقطاع الحكومي المتشيع التي تمكنا من مشاهدتها ومعايشتها يومياً في كل مؤسسة وفي كل إيقاع من ايقاعات الحياة الاجتماعية العراقية في الريف والمدينة، طغت على جميع هذه الصور الظلام الدامس والعتمة الحالكة والركود الحركي المتعمد لطبيعة الحياة الاجتماعية لمدة ثلاثة عشر عاماً الى ان حصل الطوفان العراقي على يد جيل الشباب الحر والمستقل والواعي والرافض لكل انعكاسات مرايا بقايا الاحتلال من أجل ازاحتهم ومحاسبتهم ومحاكمتهم. فحصلت المشاحنة (الصراع) الأولى بشكل هادئ وسلمي بين الطرفين ازلام الحكومة (وزراء ونواب والمحافظين ومجالسهم البلدية أي حكومة بقايا الاحتلال) مع جيل الشباب الأعزل سلاحيً والمتمرس وطنياً، برزت هذه الشحناء على شكل تظاهرات جماهيرية مليونيه كل يوم جمعة مع اعتصام سلمي دون حدوث صدام دامي بينهما.

انها أحداث اجتماعية توثق تاريخ الحركة السياسية والاجتماعية في العراق الحديث التي لابد ان تحصل وتقع من اجل كنس وتنظيف العناصر والفئات المصلحية والهدامة للوطن والوطنية لتكن هذه الاحداث دروساً بليغة للأجيال العراقية القادمة. ولا يفوتني ان اشير الى استخدامي المراجع والمصادر العلمية الحديثة عن المجتمع العراقي الموجودة في مكتبة جامعة كاليفورنيا – فرع إيربان التي تزودت بها في معظم فصول هذا المؤلف.

أما محتويات هذا المؤلف فهي خمسة فصول انطوى الأول على تحديد حيثيات المجتمع العراقي قبل الغزو الاحتلالي لكي نعطي أضواء كاشفة على مجريات الاحداث التي وقعت اثناء وبعد الغزو والاحتلال الأمريكي، بينما حمل الفصل الثاني عنوان المجتمع العراقي أبان الغزو الاحتلالي لكن الفصل الثالث انطوى على عرض الموجات الهادفة لطحن المجتمع العراقي، وتناول الفصل الرابع أبرز المقوضات التي أوهنت حيوية الضبط الاجتماعي العراقي في حين كشف الفصل الخامس موضوع خسائر العراق في حروبه الأربعة.

أما دور زوجتي ام يزن " جيهان عاصم الطائي " في هذا المؤلف فكان المناقش والمحاور للأحداث فضلاً على طباعتها لمسودته جزاها الله عني كل خير ومنحها الصحة والعافية.

أخيراً نسأل الحق الذي منح كل الحق وجوده أن يسدد خطانا وأن يتوج بالنجاح مسعانا وأن يوفقنا الى المعرفة التي هي غايتنا الأولى والأخيرة في كل ما نزاوله.

وبالله العون ومنه التوفيق

الأستاذ الدكتور

معن خليل العمر