تاريخ الفكر الاقتصادي من العصر الهليني الى بدايات القرن الحادي والعشرين - ج1

تاريخ الفكر الاقتصادي من العصر الهليني الى بدايات القرن الحادي والعشرين - ج1


  • المؤلف: عبد الرزاق بني هاني
  • عدد الصفحات: 183
  • سنة الطبع: 2021
  • نوع التجليد: Hard cover
  • رقم الطبعة: 1
  • لون الطباعة: Black
  • القياس (سم): 17*24
  • الوزن (كغم): 0.422
  • الرقم المعياري (ISBN): 9789957918194

$15.00
النوع : 9789957918194
حالة التوفر : 1000
مشاهدة 1988 مرات
تحميل الفهرس

وصف المنتج

مقدمة المؤلف

ما هو تاريخ الفكر، وما هو تاريخ الفكر الاقتصادي؟

ذكرتُ في كتابي، الموسوم اقتصاديات الإيمان(1)، بأن أولَ مشروع ٍاضطرَ إليه البشرُ، في حياتهم البدائية الأولى، كان اقتصادياً بامتياز. وقد انحصرت اهتماماتهم، خلال تلك الأحقاب الغابرة، في كيفية تدبر شؤونهم المعيشية البدائية، وابتداع وسائلَ الإنتاج والصيد، واستكشاف الأنواع النباتية التي قد تشكلُ غذاءً مناسباً لهم، وحصاد تلك النباتات في المواسم المناسبة، والتدرج نحو ترتيب الحيازات الزراعية، ثم النشاط الزراعي، ثم التحول التدريجي من حياة برية بدائية خالصة، إلى حياة الفلاحة المُنظمة. وفي صراعهم المضني مع الطبيعة المحيطة بهم، اضطر البشرُ إلى اختراع أدوات رأس المال البدائية، وتوظيفها في الصيد والزراعة والبناء، كالمعاول والفؤوس، واستخدام النار في الإضاءة والتدفئة والطبخ. وعند مقارنة الظروف التي أحاطت بالبشر في تلك الأزمان مع ظروف العصر الحديث، نجد الفجوة المعيشية العظمى، التي تُميز الإنسان الأول عن الإنسان المعاصر، ولو من الناحية النظرية التصورية.

يؤمن مؤلف هذا الكتاب، إيماناً مطلقاً، بأن الله الخالق، سبحانه وتعالى، قد خلق الإنسانَ في أحسن تقويم، وعلمه (هداه) كيف يتدبر حياته على الأرض، وأن نظرية التطور التي تتصورها الفلسفة الداروينية، لا تنسحب على الإنسان في مجال هيئته وشكله وصورته، وقدراته العقلية على التعلم. لكن ذلك لا ينفي عن البشر مرورهم بسيرورة التطور المعرفي، وتراكم العلم الذي يكتسبوه عبر الأحقاب الزمنية، منذ وجودهم على الأرض، وحتى هذه اللحظة. وسيبقى الإنسان حبيساً لسيرورة معرفية إلى أن تتبدل حياته وشكلهاً تبدلاً جوهرياً، لا تتعلق بأي شيء مما خبره في حياته الحالية. ما يعني بأن الإنسان دائم التعلم، حتى ولو اكتسح المجرات الفضائية بعلومه ومعرفته وقوته.

لماذا تاريخ الفكر الاقتصادي، وفلسفة الفكر؟

كثيراً ما تجذبني سيرة وشخصية عالم الاقتصاد جوزيف شومبيتر

(Joseph Schumpeter)، لأسباب ٍ كثيرة، يأتي في مقدمتها شغفه بالعلم، والابداع، والتميز، وإنتاجه المعرفي الغزير، خاصة في التأريخ الاقتصادي، والمعرفة والابداع. وقد استوقفتني بشكلٍ لافت كثرة المعاناة والألم الذي تعرض له، منذ أن كان طفلاً في الرابعة من عمره، وحتى وفاته غريباً عن وطنه، في الولايات المتحدة، في العام (1950)، بمرض السرطان. وأثار شجوني عطاء زوجته المُجتهدة والمُثابرة إليزابيث، التي كافحت من بعده، كي تُخرج مخطوطاته العلمية والفكرية، التي لم تر النور في حياته، إلى حيز الوجود، وانتشارها في أصقاع العالم.

يذكر شومبيتر، في كتابه الموسوعي تاريخ التحليل الاقتصادي

 (History of Economic Analysis)(1)، بعض الحقائق الكامنة وراء أهمية دراسة تاريخ العلم، أيُ علم، وضرورة دراسة تاريخ الفكر الاقتصادي. وقد حذّر، بأفكاره المُلهمة، جموع العلماء، وطلبة العلم والباحثين، من الاكتفاء بآخر ما قاله العلماء وما أنتجوه من أفكارٍ ونظريات، لأن ذلك يؤدي حتماً إلى ضحالةِ الذاكرة المعرفية بكيفية تراقي العلم، وما يؤدي إلى تعاظم الجهل بكيفية تطور المجتمعات. ويضيف بأنه لابد أن يأخذ طلبة العلم والباحثين بعين الاعتبار الظروف التي سادت في المجتمعات البشرية على مر العصور، وأن يدركوا حقيقة أثر تلك الظروف، وأنها قد أنتجت وقائعَ معينة، دفعت بالمفكرين في كل حقبة زمنية كي يجتهدوا في وضع تصوراتٍ فلسفية ونظريات، تساعدهم على تفسير الواقع. وشدد على حتمية تاريخية تقول بأن الظروف تتغير مع الأيام، وتُغيّر معها عادات الناس وتقاليدهم، ونظرتهم إلى العالم الذي يعيشون فيه. ما يعني بأن النظريات الاجتماعية، مهما كانت، هي نتاجٌ لظروف متقلبة، وأنها قد لا تنفع لكل مكان وزمان! لكن دراسة وفهم تاريخ الفكر يُمكننا من الاحتفاظ بكل ما ينفع من أعمال الأجيال الغابرة.

يُشدد شومبيتر على المبدأ القائل بأن الأفكار السابقة ملهمة للأفكار اللاحقة، ويُركز على أهمية التعلم عن طريق العقل البشري الجمعي، وأهمية التعمق بتاريخ الفكر، وبالتأريخ (Historiography) نفسه. وأن من واجب علماء الاقتصاد والاجتماع أن يتعمقوا بتاريخ الفكر.

اختلف الفلاسفة والمؤرخون، وتعددت آرائهم، منذ الحقبة الإغريقية، مُمثلة بأفلاطون وأرسطو وزينوفون، مروراً بالعهد الوسيط، ثم بالثورتين الصناعيتين؛ الأولى والثانية وحتى هذه اللحظة، حول الفواعل المؤثرة بالتاريخ الاقتصادي للبشر.

يقول الفيلسوف أرسطو في كتابه الأخلاق النيكوماشية Nicomachean Ethics))(1)، في عبارة عميقة: “... يتشاجرُ عامة الناس على عدم المساواة في المِلكيات، ويتشاجرُ أبناء الطبقات العليا على الجاه والسلطة ... وعادة ما تحدث الجرائم العظمى بسبب فائض الأشياء وليس بسبب الضرورة. ولا يُصبحُ البشرُ مستبدين كي يتقوا البرد، وبالتالي لا يحظى بالشرف ذلك الذي يقتلُ لصاً، بل الذي يقتلُ مستبداً ...". وهذه العبارة السافرة تشير، من وجهة نظر الفيلسوف، إلى طبيعة البشر وتنافسهم على الأشياء المادية والمعنوية، وكيف أن التعسف في توزيع الموارد يؤدي إلى الاستبداد، والفقر والعنف الاجتماعي.

في سياق هذا الإدراك قد يكون من الضرورة، ومن باب المنفعة الفكرية ربط الأحداث التاريخية، منذ حقبة أفلاطون وأرسطو وزينوفون، مروراً بحقبة سيادة الكنيسة الكاثوليكية، ثم بالعصر الوسيط، وقرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، وانتهاءً بالعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، من أجل توضح التطور الفكري للبشر، وفهم رأي الفلاسفة وعلماء التأريخ حول صناعة وتشكُل تاريخ البشر، خاصة تاريخ الفكر الاقتصادي!

أكرر ما ذكرته في كتابي اقتصاديات الإيمان (Economics of Faith)(1)، بأن أولَ مشروعٍ بدأ به الإنسان على وجه البسيطة كان مشروعاً اقتصادياً، بامتياز. فكل الأنشطة التي يُمارسها البشر، من تدبُر سُبل العيش والبقاء، إلى إعمار الأرض، والتكاثر وجمع الثروة، ليست إلا أنشطة اقتصادية.

        يَعتبر كارل ماركس (Karl Marx)، في أفكاره الفلسفية العميقة حول المادية التاريخية (Historical Materialism)، والمادية الجدلية (Dialectical Materialism)، بأن صراع الأفكار، وأشكال الصراع الأخرى بين البشر حول المادة، هو محركٌ أساسي لأنشطتهم، ومُسبب رئيس للحروب والكوارث التي يسببها البشر لبعضهم البعض، وللبيئة من حولهم. ما يعني بأن الاقتصاد بحد ذاته هو ترجمة فعلية للتاريخ على أرض الواقع.

قد يُطرح أحدنا سؤالاً هاماً: من يحرك التاريخ؟ أي ما هي الفواعل والعوامل التي تدفع بالتاريخ إلى الأمام، أو الخلف. وهل يتقهقر التاريخ، مع إدراكنا بأن الزمن لا يتحرك إلا باتجاه واحد، إلى الأمام؟

نستهل حديثنا بالقول بأن تاريخ الفكر الاقتصادي يتعامل مع عددٍ كبيرٍ من المفكرين والأفكار، وعددٍ كبير من النظريات، في موضوع أسماه الاغريق علم التدبر (Oikonomia)، الذي اقتصر على فهم الكيفية التي يتدبر رب المنزل قوته وقوت عياله (Household Management). وهو العلم الذي أطلق عليه الأوروبيون اسم الاقتصاد السياسي (Political Economy) منذ العهد الميركينتالي، في حوالي القرن الرابع عشر، ثم أصبح معروفاً باسم علم الاقتصاد (Economics)، منذ الثورة الصناعية الأولى، يشمل دراسة وفهم المدارس الفكرية المتعددة، وتقصي أصول وتطور الأفكار الاقتصادية، وترابطها مع بعضها بعضاً، في سلسلة زمنية تاريخية للعقائد الاقتصادية (Economic Doctrines).

يقول عالم الاقتصاد الهندي هاربانز باهشيا

(Harbans Lal Bhatia)(1) بأن تاريخ الفكر الاقتصادي يشمل العقائد الاقتصادية والتعميمات التي أطلقها علماء الاقتصاد والمفكرون المختلفون، بأفكارهم ومعتقداتهم حول الظواهر الاقتصادية في حياة البشر. وقد تعرضت الأفكار والمعتقدات الاقتصادية، حسب رأي باهشيا، لسلسلة من التطورات من مفكرين ومُنظرين كُثر، أدت إلى آثار كبيرة على أحوال البشر.

ويُعرّف المؤرخ الاقتصادي الأمريكي لويس. ه. هاني (L.H. Haney)(1) بأن تاريخ الفكر الاقتصادي هو دراسة نقدية لتسلسل الأفكار الاقتصادية، والبحث في أصولها، والعلاقات التي تربطها، وتجلياتها على أرض الواقع.

أما جوزيف شومبيتر(2) فيقول بأن تاريخ الفكر الاقتصادي هو مجموع كل الآراء والرغبات المتعلقة بالموضوعات الاقتصادية، خاصة في مجال السياسات العامة، في الأزمان والأماكن المختلفة. وأن تاريخ الفكر يتتبع التغيرات التاريخية للأمزجة والمواقف، ويُعنى بمناهج العمل المتعلقة بحل القضايا الاقتصادية.

 

يُجمع علماء الاقتصاد، خاصة المهتم منهم بالفكر الاقتصادي، والتاريخ الاقتصادي، على أن هناك فروقات أساسية بين ثلاثة أشكال من التأريخ المتعلق بالنشاط الاقتصادي: 1) تاريخ الفكر الاقتصادي (History of Economic Thought)، و2) التاريخ الاقتصادي (Economic History)، و3) تاريخ الاقتصاد (History of Economics). ففي الوقت الذي يُعنى تاريخ الفكر الاقتصادي بتطور الأفكار الاقتصادية، وتتبع أصولها، يُعنى التاريخ الاقتصادي بدراسة التنمية الاقتصادية لدولة أو إقليم ما، وكيف تطورت وتحققت على أرض الواقع. أما تاريخ الاقتصاد فيتعامل مع علم الاقتصاد. وعلى الرغم من إشغال تاريخ الفكر الاقتصادي والتاريخ الاقتصادي لحقلين معرفيين مختلفين، إلا أنهما قريبان من بعضهما بعضاً. وعادة ما تتأثر الأفكار الاقتصادية، حسب رأي شومبيتر بالظروف السائدة في مجتمعٍ ودولةٍ ما. فالأفكار والظروف ترتبط بشكل وثيق مع بعضهما بعضاً، وبالتالي يقترب تاريخ الفكر الاقتصادي من التاريخ الاقتصادي، بشكل أو بآخر.

 

التقسيم الزماني لتاريخ الفكر الاقتصادي:

يُصنف مؤرخو الفكر الاقتصادي الخط الزمني للفكر الاقتصادي، وتطوره، تحت ثلاث أحقاب، هي: الحقبة القديمة (Ancient)، والعصر الوسيط (Medieval)، والعصر الحديث (Modern).

 

تشمل الحقبة القديمة ما ورثته البشرية من آراء وأقوال الفلاسفة الإغريق والبابليين. وهو تراث فكري واسع، تركزّ حول مبدأ الدولة والديموقراطية، ومفاهيم العدل والعلاقات الاجتماعية، والنشاط الاقتصادي للبشر، بما فيها من مفاهيم عن الأسعار والإنتاج. وكان الفلاسفة أفلاطون وأرسطو وزينوفون من رواد هذه الحقبة، بامتياز. أما الحقبة الوسيطة فتشمل آراء المفكرين من أمثال القديس ثوماس الإيكويني

(St. Thomas the Aquinas)، الذي تحدث في كتاباته عن المِلكية والسعر العادل، والعدالة التوزيعية، ومفهوم الربا، وأفكار رجل الدين جون كالفين (John Calvin)، الذي تحدث عن الفقر والثراء، وضرورة الثروة. وتشمل الحقبة الحديثة أفكار الميركينتالية وما بعدها، مثل آدم سميث وديفيد ريكاردو والفيزيوقراطيين والمدرسة الكلاسيكية القديمة والجديدة والكينزية وما بعدها.

 

يُلخص جوزيف شومبيتر الحقبات الزمنية التي توافرت عنها مخطوطات أو وثائق تاريخية يُعتمد عليها بالحقبة الإغريقية والمسيحية الأولى والمتأخرة قبل الاقطاع. ثم ينبه إلى ما يُسمى الفجوة العظيمة (Great Gap) التي تمتد لمدة (500) عام، منذ كتابات القديس أوغسطين (St. Augustine) وحتى نهاية الألفية الأولى. وعادة ما ينتقل المؤرخون فجأة من عهد القديس أوغسطين إلى التراث العربي – الإسلامي، والحروب الصليبية، وعصر الاقطاع، والقديس ثوماس الإيكويني. أما الفجوة العظمى فتشمل ما جرى على مدار خمسة قرون في الإمبراطورية الرومانية الشرقية، أي البيزنطية (Byzantine Empire).

التقسيم المنهجي لدراسة الفكر الاقتصادي:

يُمكننا تقسيم تاريخ الفكر الاقتصادي، تحت عنوانين رئيسين: 1) أصل وتطور الأفكار الاقتصادية، قبل أن يُصبح الاقتصاد عِلماً منهجياً. 2) الأفكار الاقتصادية، بعد أن أصبح الاقتصادُ علماً منهجياً. ويمكن دراسته وتحليله بواسطةِ واحدٍ أو أكثر من الطرق (المنهجيات) التسع الآتية:

أولاً) المنهج الزمني

 (ChronologicalApproach): دراسة التسلسل الزمني للأحداث الاقتصادية والأفكار التي اقترنت بها.

ثانياً) منهج الرفاء (Welfare Approach): دراسة الآثار المترتبة على الأفكار الاقتصادية، التي أطلقها مفكرو ومنظرو الفكر الاقتصادي.

ثالثاً) المنهج المفاهيمي (Conceptual Approach): دراسة المفاهيم والافتراضات والنظريات التي استند إليها المفكرون والمنظرون الاقتصاديون.

رابعاً) المنهج الاستنباطي أو الكلاسيكي (Deductive or Classical Approach): استنباط الدروس والنتائج التي ترتبت على النظريات والأفكار الاقتصادية، بواسطة الاستنتاج من الكل إلى الجزء، حسب النظرية الاقتصادية الكلاسيكية، والنزعة الطبيعية للمتغيرات نحو التوازن.

 

خامساً) المنهج الاستقرائي (Inductive Approach): استقراء الدروس والنتائج التي ترتبت على النظريات والأفكار الاقتصادية، بواسطة الاستنتاج من الجزء على الكل.

سادساً) المنهج الفلسفي (Philosophical Approach): دراسة الفلسفة الكامنة وراء الأفكار والنظريات الاقتصادية، وما ترتب عليها.

سابعاً) المنهج الكلاسيكي المُستجد (Neo-Classical Approach): دراسة الفكر الاقتصادي من وجهة نظر كلاسيكية مُستجدة، بعد حدوث اللا توازن في المتغيرات الاقتصادية، كما تراه النظرية الكلاسيكية المُستجدة.

ثامناً) المنهج المؤسسي (Institutional Approach): دراسة الأفكار الاقتصادية في إطار المؤسسات الشكلية (Formal Institutions) واللاشكلية (Informal Institutions) السائدة في المجتمع.

تاسعاً) المنهج الكينزي (Keynesian Approach): دراسة الأفكار الاقتصادية في إطار الفكر الكينزي، مثل التوظيف الكامل للموارد، وأثر الطلب الفعلي.

 

 

عودة إلى السؤال من يُحرك التاريخ؟

طغت على سطح عالم الفكر، منذ العصر الهليني، وتحديداً في أيام أفلاطون، وحتى عهدٍ قريب، العديد من النظريات الجاذبة، تتعلق بالفكر والواقع. وتجلت بالسؤال الوجودي: هل وعي (Consciousness) البشر يُحدد وجودهم (Existence)، أم أن وجودهم يُحدد وعيهم؟ وقد أشغل هذا الشكل من الأسئلة الوجودية بال المفكرين على مر العصور.

لنبدأ برأي الفيلسوف الألماني جورج هيغل

(Georg Wilhelm Friedrich Hege)(1) حول الأفكار: يعتقد هيغل بأن الفكر والعقيدة والثقافة والدين، وما يدور في فلكها، هي البنية الفوقية للمجتمع (Society’s Superstructure)، وهي التي تُشكل العالم المادي من حولنا، وتصنع التاريخ بواسطة الجدلية المثالية وتناقض الأفكار، أي الأفكار عندما تكون في سبيلها إلى التطور.

تأثر هيغل بما قاله المفكر الفرنسي رينه ديكارت (René Descartes)، صاحب القول المشهور " أنا أفكر، إذن أنا موجود (Cogito, ergo sum)، التي قصد بها بأن العقل هو المُبتدأ، وأن المادة والوجود هما الخبر. وبناءً على هذا الإدراك نشأت الفلسفة الجدلية المثالية (Hegelian Dialectical Idealism) للفيلسوف الألماني هيغل، جاء مختصرها تحت عنوان رمزي هو الهبوط من السماء إلى الأرض.

انطلق هيغل من فكرة الروح (Spirit)، أو باللغة الألمانية (Geist)، وهي تشمل الأفكار السائدة في المجتمع، والعقيدة الدينية والثقافة، والأخلاق، والقانون، والتعليم، والأسرة. وهذه الأشياء، باللغة المعاصرة، هي المؤسسات الشكلية واللا شكلية. تشكل بمجموعها ما يسمى الوعي، أي وعي الفرد بوجوده المعنوي. ويترسخ هذا الوعي في وجدان الفرد والجماعة، ويصنع مبدأ الفكرة (thesis) ونقيضها (anti-thesis).

لا تجتمع الفكرة ونقيضها في الآن ذاته. وقد تصور هيغل بأن الأفكار ونواقضها في صراع مستمر. وفي حلبة التصادم بينهما، تصرع إحداهما الأخرى، لينتج عن ذلك ما يسمى المركب (synthesis)، وهو حالة جديدة تتبلور من الصراع الدائم بين الأفكار، وهكذا يخلق التاريخ.

 

 

المركب هو فكرة جديدة، يُمكن تشبيه ظهورها، كما لو أنها بذرة لنبتةٍ ما، لا تلبث أن تفنى بعد زراعتها، لتُنتج جذوراً وسيقاناً وأوراق، ثم بذوراً، وهكذا. والأفكار هي المرآة التي تعكس عمق العالم المادي. وبالتالي فإن الأفكار وما يدور حولها، وتضادها وتطورها، تسبق العالم المادي. وبكلمة أخرى يقول هيغل بأن الوعي يسبق الوجود، وليس العكس.

كان المفكر الشيوعي كارل ماركس (Karl Marx) من تلامذة الفيلسوف هيغل، وقد تأثر إلى حدٍ بعيد بأفكار الفلاسفة الإغريق، ومنهم سقراط وأفلاطون وأرسطو، وهم ممن تبنى الفكر المادي في تفسير حركة التاريخ، وما أصبح يُعرف في العصر الحديث بالحتمية الاقتصادية (Economic Determinism).

كان السؤال الأساسي الذي طرحه الفلاسفة الإغريق: هل العقل يصنع الواقع، أم أن الواقع يصنع العقل؟ وانطلاقاً من فلسفتهم المادية، فقد وضعوا الواقع قبل العقل. ونتيجة لتمسكه بالمادية، عكس ماركس آراء هيغل رأساً على عقب، وشدد على أولوية القاعدة المادية، التي تشمل الاقتصاد، وطرق الإنتاج، وطريقة ضبطه، بواسطة منظومة سياسية معينة، كأن نقول رأسمالية أو شيوعية، مثلاً. فبدأ، حسب آراء الفلاسفة والمفكرين، من الأرض إلى السماء، بعكس ما تصوره هيغل. وبالتالي فإن الاقتصاد، باعتباره الفضاء المادي لفعل الإنسان، هو الذي يحرك التاريخ بواسطة التناقض والجدل?

الفهرس

إهداء  

مقدمة المؤلف

الفصل الأول: العهد الهليني  

الفصل الثاني: الألفية الأولى والفكر الاقتصادي خلال الحروب الصليبية 

الفصل الثالث: الفكر الاقتصادي بعد الحروب الصليبية: ثوماس الايكويني وجون كالفن

الفصل الرابع: الفكر الاقتصادي في عهد الاقطاع  

الفصل الخامس: الفكر المدرسي      

الفصل السادس: فلاسفة العلم والفكر: رؤوس الرماح       

الفصل السابع: بداية الفكر الاقتصادي العلمي        

الفصل الثامن: العقيدة التجارية – الميركينتالية الرأسمالية التجارية        

الفصل التاسع: العقيدة الفيزيوقراطية